*الإيجاز والإطناب في القرآن* إن القسمة العقلية للكلام كثرة وقلة بالنسبة لمعناه تحصره في أربعة أقسام:
أولها: الإيجاز بأن تكون الألفاظ قليلة والمعاني كثيرة.
وثانيها: التقصير بأن تكون الألفاظ غير كافية للدلالة على المعاني.
ورابعها: التطويل، وهو أن تكون الألفاظ كثيرة وفيها ما لا حاجة إليه. وهذه
الأقسام الأربعة من الناحية البلاغية متقابلة، فالإيجاز والتقصير
متقابلان، وأولهما باب من أبواب البلاغة، وثانيهما عيّ في القول، ونقص في
البيان، والإطناب والتطويل متقابلان، وأولهما بلاغة وحسن أداء، وثانيهما
عيّ وعيب في البيان، يدفع إلى الملل والسآمة، حتى يتبرم به السامع.
وقد ذكر الرماني هذه الأقسام المتقابلة، كل ما يقابله، فقال: والإيجاز
بلاغة والتقصير عيّ، كما أنَّ الإطناب بلاغة والتطويل عي، والإيجاز لا
إخلال فيه بالمعنى المدلول عليه، وليس كذلك التقصير، لأنه لابد فيه من
الإخلال، فأما الإطناب فإنما يكون في تفصيل المعنى، وما يتعلق به في
المواضع التي يحسن فيها ذكر التفصيل، فإنَّ لكل واحد من الإيجاز والإطناب
موضعًا، يكون به أولى من الآخر، لأنَّ الحاجة إليه أشد، والاهتمام به
أعظم، فأما التطويل فعيب وعيّ؛ لأنه تكلف فيه الكثير فيما يكفي منه
القليل، فكان كالسالك طريقًا بعيدًا، جهلًا من بالطريق القريب، وأمَّا
الإطناب فليس كذلك؛ لأنه كمن سلك طريقًا بعيدًا لما فيه من النزهة
الكثيرة، والفوائد العظيمة، فيحصل في الطريق على غرضه من الفائدة، على نحو
ما يحصل له بالغرض المطلوب.
وإنه يستفاد من هذا الكلام أنَّ الإطناب هو في زيادة المعاني، لا في زيادة
الألفاظ، فإنَّ اللفظ إذا زاد لا يكون الكلام من الإطناب البليغ المستحسن
إلَّا إذا زادت معه المعاني، وذلك يكون بتفصيل القول لا بإجماله، اقرأ
قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ
أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا
مَآَرِبُ أُخْرَى} [طه: 17، 18] إننا نرى هنا إطنابًا حلوًا تترطب به
الألسنة والأسماع، كان الإيجاز أن يقول هي عصاي. وبقية المعاني تفهم، ولكن
محبَّة موسى لربه، ورغبته في أن يطيل المحادثة، صرَّح بما يفهم ضمنًا،
وبما يعلمه الله تعالى من غير بيان.
واقرأ مرة أخرى ما قاله موسى عليه السلام عندما كلفه ربه أن يقوم بحق
الرسالة، فقد قال راغبًا في حديثه مع ربه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي،
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا
قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ
بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا،
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ
أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً
أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي
أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ
إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا
فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى،
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 25 - 41].
وهنا نجد في هذا الكلام إطنابًا في خطاب كليم الله تعالى لربه، فهو لا
يكتفي بالملزوم حتى ينطق باللازم؛ لأن الخطاب محبَّب إلى نفسه؛ لأنه يخاطب
ربه فيسهب في القول من غير تزيد.
ثم تجد بعد ذلك في كلامه إيجازًا غير مخل، قد حذف منه ما صرح به في آيات
آخر من قصة سيدنا موسى مع فرعون، فذكر أن أخته قالت: هل أدلكم على أهل بيت
يكفلونه لكم، ولم تذكر أنه حرم عليه المراضع، وقد عرف هذا من الآيات
الأخرى، وفهم من هذه الآية؛ إذ إنه لا يمكن أن يكونوا في حاجة إلى من
يكفله لهم، إلَّا إذا احتاجوا إلى ذلك، وحذف من قبل كلام امرأة فرعون، وقد
فهم ضمنًا من قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}.
وذكر هنا قتله نفسًا، وطوى ذكر ما كان منه عندما بلغ رشده، ورؤيته رجلًا
من شيعته يستغيثه فأغاثه، وقتل الذي هو من عدوه، ثم طوى سبحانه وتعالى -
خبر الائتمار به ليقتله المتآمرون، ثم خروجه والتقاؤه بابنتي شعيب وسقيه
لهما، ومجيء إحداهما تمشي على استحياء، ثم زواجه على أن يكون المهر عمله
ثماني حجج أو عشرًا، ثم إيناسه بالنار، ثم مكالمة الله تعالى، وقد ذكر كله
في قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ
عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 40، 41].
وهكذا نجد أن الإطناب لا يكون بكثرة الألفاظ فقط، بل بكثرتها مع كثرة
المعنى، والإيجاز لا يكون بكثرة المعاني فقط، بل لا بُدَّ أن يكون في
الألفاظ دلالة واضحة على المعاني الكثيرة، أو أن تكون هذه المعاني ذكرت في
مقام آخر من القرآن، فإن القرآن الكريم كل كامل لا تنقص معانيه، ولا
تستغلق على قارئيه، وقد يحذف القول في مكان؛ لأنَّه يفهم بدلالة الأولى في
مكان آخر.
وبين أيدينا في هذا الباب آيات في الميراث.
لقد قال تعالى في ميراث الأولاد: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً
فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].
ونرى هنا أنَّ النص الكريم ذكر أن ميراث الواحدة إذا انفردت النصف، وميراث
الأكثر من اثنتين الثلثان، ولم يذكر الميراث إذا كانتا اثنتين فقط، ولم
تزيدا عن اثنتين، أيكون النصف أم يكون الثلثين؟
لقد تبين ذلك في ميراث الأخوات، فقد قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا
كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:
176].
وهنا نجد الإيجاز المحكم، فنجد في الآية الأولى يحذف ما يفهم بالأولى من
الآية الثانية، ويحذف من الثانية كذلك، فقد ذكرت الآية حكم ما فوق
الاثنتين، ولم تذكر حكم الاثنتين، وهو ما بين في الآية الأخرى؛ لأنها ذكرت
أن ميراث البنتين هو الثلثان، وإذا كانت البنت أقرب إلى الميت من الأخت
فيكون ميراث البنتين بدلالة الأولى؛ لأنه إذا كانت الأختان وهما أبعد
تأخذان الثلثين، فأولى أن تأخذهما البنتان الاثنتان؛ لأنهما أقرب، فلا
يمكن أن يكون نصيبهن أقل من الثلثين.
والآية الأولى نصَّت على أنَّ الأكثر من بنتين تأخذان الثلثين، فلا زيادة
عن الثلثين، فالأولى بألَّا يزيد عن الثلثين نصيب الأكثر من أختين؛ لأن
الأكثر من اثنتين من ذوي القرابة القريبة لا يزيد عن الثلثين، فأولى ألَّا
تزيد عن ذلك ذوات القرابة الأبعد.
وأمثال ذلك كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ
يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وهذه حال المطلقة الحامل، وذلك
إيجاز لا تفصيل فيه، وبينت حال الحامل، في قوله تعالى: {وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
- وإنَّ الأمر الذي يجب أن نعرفه ونؤمن به ونؤكده، وهو الذي يليق ببلاغة
القرآن التي لا تسامى، ولا تناهد، وتتحدَّى بها الأجيال كلها - في كل
اللغات - أن الإيجاز ليس فيه قصور في الألفاظ تكون على قدر المعاني مع
كثرتها، فهي واضحة الدلالة، كما أنَّ المعاني وفيرة غزيرة مغدقة.
وإنَّ الإطناب كذلك، فإنَّ المعاني تكون كثيرة، والألفاظ على قدرها لا
زيادة فيها بحيث لا يمكن الاستغناء عن عضها والاكتفاء ببعضها، بل إنك لو
أردت حذف كلمة، بل حرف من كلمة لأحسست بأنك قطعت جزءًا من الصورة
البيانية، فلا تكون الصورة كاملة بدونها، بل تحس بفراغ في مكانها لا بُدَّ
أن يملأ.
وإذا كان الإطناب مع كثرة الألفاظ على قدر المعاني؛ بحيث لا يُسْتََغْنَى
بكلمة عن كلمة، والإيجاز كذلك، فما الفرق إذن بينهما، ولم يكن ثمة حاجة
لأن يقسم بيان القرآن إلى إيجاز وإطناب، وقد اتفق علماء البلاغة على أن في
القرآن الكريم النوعين.
وإننا نقول في الجواب: إن الإيجاز والإطناب طريقان للبيان، كل منهما واف
في موضعه، يؤدي الغرض الأول في موضعه، وهما يتباينان لا يجمعهما إلا
البلاغة البينة الواضحة، وكل له مقامه.
ولنوضِّح الفرق بينهما في الحقيقة، ثم نوضِّح الفرق بينهما في مواضعهما من القرآن الكريم.
فالفرق بينهما في الحقيقة أنَّ الإيجاز يكون بحذف كلمة دلَّت القرائن
عليها مع الوفاء في حذفها، كالوفاء في ذكرها، والبلاغة تكون في الحذف في
مقام البيان إن كانت الدلالة قائمة، والقرائن مثبتة، ويكون في الحذف فائدة
لا توجد مع ذكر المحذوف؛ كقول الله تعالى عن قول إخوة يوسف لأبيهم:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82].
وإن القرية وهي مجموع المساكن والطرقات لا تسأل إنما يسأل من فيها، بل
يسأل بعض من فيها، وذلك دليل على أنَّ المسئول هو البعض، فهنا إيجاز
بالحذف، ولا نقص بذلك الحذف، بل فيه زيادة معنى، وهو أنَّ الأمر شائع عام
للجميع، وكأن كل من في القرية يعرف حتى البنيان، والمساكن والأسواق، أي:
ذلك أمر معروف، لا موضع للكذب فيه.
وحقيقة الإطناب أنَّ المعاني تكون والألفاظ على قدر واحد في الكثرة،
والألفاظ بناء متكامل لا ينقص منه لبنة، ولكن الإطناب يكون متجهًا إلى
تفصيل الألفاظ في الدلالة، فلا يستغنى بلازم عن ملزوم، ولا بملزوم عن
لازم، ولا بعامٍّ عن خاص، ولا بخاصٍّ عن عام، ولا بدلالة الأولى عن نص
اللفظ، ولا بالإشارة عن العبارة، بل كل ما يقتضيه المقام يجيء في وضوح
كامل، لا يكتفي فيه بالتضمن، ولا بالإشارة ولا بالالتزم. ومثال ذلك في
الحسيات، وإن كان لكلام الله تعالى المثل الأعلى، أن تطلب من شخص وصف قصر،
فيصف أبعاده، طوله وعرضه، وارتفاعه وزيناته، ثم يصف الغرفات غرفة غرفة،
ودعائم بناء القصر، ويسترسل في وصف كأنك تراه، وهذا إطناب يكون له مقامه
إذا كان لمن يريد شرائه أو سكناه.
وقد يقول في وصفه أحيانًا أنه على أكمل صورة لتصور المترفين طلاء وحلية.
ولا شك أن الأول إطناب لا زيادة فيه ما دام غير قاصد إلَّا لبيان ما فيه، والثاني إيجاز لا قصور فيه.
ولنضرب لذلك مثلًا سورة الطلاق التي بينت وقت الطلاق، وما يكون بعده، وما
يجب للمطلقة، وما يجب على المطلق، مع الإيجاز في بعض الأحكام التي تشمل
حال الطلاق وغيره.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ
أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ
ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ
شَيْءٍ قَدْرًا، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ
إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، ذَلِكَ
أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْرًا} [الطلاق: 1 - 7].
وإنك ترى في هذا النص الكريم المعاني الكثيرة، فهي تكاد تشتمل على أحكام
المطلقات، وفيها إشارة إلى بعض أحكام عدة المتوفَّى عنهنَّ أزواجهن.
وإن الألفاظ ليست قليلة، ومن المؤكد أنه لا زيادة فيها، بل تخلل الإيجاز بعضها.
وإن أكثر آيات الأحكام فيها ذلك الإطناب الذي لا تزيد فيه الألفاظ عن
المعاني، لأنَّها تتعرض لما يكلف الله تعالى عباده، ولا بُدَّ أن يكون ذلك
واضحًا للمكلف كل الوضوح حتى لا يكون في ذلك موضع إبهام تكون فيه معذرة
للمكلف، بل إنه بيان الله تعالى الشامل الذي لا إيهام فيه، ولا مظنَّة
لإبهام، اقرأ قوله تعالى في تحريم الخمر، إذ أطنب سبحانه فقد قال - تعالت
كلماته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ
الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 90 -
93].
وإننا نرى القرآن الكريم يأتي بالإطناب الذي لا زيادة فيه في آيات الأحكام
كما أشرنا بذلك، وتلونا من كتاب الله تعالى، فإنك لا تجد أن حكمًا أصليًّا
يأتي به القرآن يكتفي فيه بالإشارة عن العبارة، وباللازم عن الملزوم، بل
كل ذلك صريح في القرآن الكريم، ولكنَّ الفقهاء في استنباطهم كانوا يأخذون
أحكامًا من إشارات العبارات وكناياتها، كما رأينا فيما استنبطوه من قوله
تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فإنهم
فهموا منه أن الولد لأبيه، وأن له حق التربية، وأخذ الفقهاء من إشارات
العبارات كثيرًا في أبواب الفقه، وعد ذلك من بلاغة القرآن الكريم.
وإن أخذ الأحكام بطريق الإشارة دون العبارة لا يمنع أنه لم يكتف بذكر
الملزوم في بيان الحكم الأصلي، وإن ذلك ثمرات الحكم الأصلي فهمت منه، وأما
الأصل فلم يفهم إلا بالعبارة الواضحة.
هذا، ومن مواضع الإطناب الواضح في القرآن الكريم القصص القرآني في مواضع
العبرة، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ما نزل بالأنبياء
السابقين، وما لاقوا من أقوامهم، فإن الإطناب في ذلك يزيد قلب النبي صلى
الله عليه وسلم تثبيتًا وأنسًا، وأن القصص فوق ذلك يكون مشتملًا على
مناقشة الأنبياء السابقين لأقوامهم، وأدلة التوحيد التي جاءت على ألسنتهم،
وفيه بيان أحوال السابقين، وما كان يسيطر عليهم وعلى بيئاتهم.
وإنه من مواضع الإطناب الذي لا يكفي فيه الإيجاز بطلان عبادة الأوثان،
ومجادلة المشركين، وردّ مطالبهم من معجزات غير القرآن، وبينات تثبيت
الرسالة سواء، فإنَّ القرآن مشتمل على الكثير منه.
ومن مواضع الإطناب مناقشة أهل الكتاب، وبيان إنكارهم، وإثبات ماضيهم الذي امتد في حاضرهم.
- ويجب أن ننبه هنا إلى أن التكرار ليس من الإطناب، وهو من الحشو إذا كان
في سياق واحد، فالسياق الواحد لا يتكرر فيه المعنى، ولا يتكرر فيه اللفظ،
وإذا بدا للقارئ الذي لا يمحّص المعاني والحقائق أنَّ في الكلام القرآني
تكرارًا للمعنى، فإنَّ ذلك عند ذوي الفهم السليم تفكير سقيم؛ لأن تكرار
المعنى له وصف آخر يؤدي فكرة جديدة، ومن ذلك قوله تعالى في وصف ميثاق بني
إسرائيل الذي أخذ عليهم وأقروا به ثم أعرضوا عنه، فقد قال تعالى: {وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا مِنْكُمْ
وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ
دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ
أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 83، 84].
ولقد ادَّعى بعض الناس أن في الكلام تكرارًا في المعنى في موضعين، وإن كان
اللفظ لا يتكرر، ففي الأول يقول تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}فيدَّعي بعض الناس أنَّ في النص
الكريم تكرارًا؛ لأن التولي هو الإعراض، فما معنى وأنتم معرضون إلَّا أن
يكون تكرارًا، وإن النظر العميق يثبت أولًا أن التولي هو الانصراف والبعد
بالجسم، والإعراض هو الانصراف بالقلب، فأشبه هذا بقوله تعالى: {أَعْرَضَ
وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:
83] وفي هذا تصوير حسي للإعراض، فهو لم يعرض بالقلب بعدم الإذعان، بل قرن
المعنى النفسي بالمظهر الحسي، كذلك هنا قرن الإعراض النفسي بالمعنى الحسي
لتصوير الإعراض، وجعل الحق وراءهم حسيًّا، ثم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ} حال وفيه معنى توليتم إن كانت بمعنى الإعراض عامَّة؛ وذلك
لأنَّ هذه الجملة حالية، أي: إنَّ الإعراض النفسي عن الحق، وجحودهم حال
مستمرة من أحوالهم، فالحق لا يصل إلى قلوبهم.
والثاني وهو قوله تعالى: {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} فإن الذين
يدعون التكرار في المعنى يقولون أن اشهادة هنا هي الإقرار إلا أن يكون
تكرار؟
ونقول في الإجابة عن ذلك أن ذكر {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بعد الإقرار ليس
تكرارًا؛ لأن الشهادة هنا ليس معناها الإقرار؛ لأنَّ الإقرار قد يكون عن
أمر مغيب، وإنما معناها الحضور والرؤية، والمعنى على ذلك أنكم حضرتم
الميثاق وأقررتم على ما فيه، فهو إقرار موثَّق لا تستطيعون أن تدعوا
الغفلة إذ هو قول وحضور، فعن أيهما تغفلون.
ومن الآيات القرآنية التي يدّعي فيها التكرار بادي الرأي قوله تعالى في
قصة صالح عليه السلام مع قومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ
مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ
سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا
آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:
74].
وقد قالوا أن هنا تكرارًا في المعنى؛ لأن العثى هو الفساد، فمعنى لا تعثوا
لا تفسدوا، فكلمة مفسدين تكون تأكيدًا للمعنى، والجواب عن ذلك أنه لا
تكرار؛ لأن النبي الأمين نهى عن الفساد، وعن القصد إليه، فكلمة مفسدين تدل
مع لا تعثوا على عدم القصد إليه، ومن جهة أخرى فيها إيماء إلى أن الإفساد
وصف لهم، فعليهم أن يتخلّوا عن الوصف، وهي كذلك تدل على شناعة حالهم،
وفساد جمعهم؛ إذ إنه فساد لا صلاح معه، فهل يقال بعد هذا أنَّ ثمة تكرارًا
في المعاني في أيِّ جملة من آيات كتاب الله تعالى.
وأنه لا يوجد تكرار لفظي في جملة واحدة، ولا في موضع واحد.
وقد ادَّعى بعض العلماء التكرار في مواضع في القرآن، وعلله بما لا ينتنافى
مع إعجاز القرآن الكريم، بل إنَّه من دلائل الإعجاز؛ إذ إن تكرار المعنى
الواحد بعبارات مختلفة في مواضع مختلفة مع جمال الألفاظ والجمل في مواضعها
المخلتفة، كأن يكرر المعنى في قصة في سور مختلفة، وكل عبارة معجزة في
ذاتها، ويتحدَّى بها في نغمها وموسيقاها وألفاظها وجملها، وعجز العرب عن
أن يأتوا بأي عبارة منها دليل على كمال الإعجاز في جملته وفي أجزائه.
ونحن نرى أنَّه لا تكرار في عبارات القرآن بمعنى أن يكرر المعنى من غير
حاجة إليه، بل ذكرنا أنه إذا تكرَّر لفظ أو معنى، فإنما يكون ذلك لمناسبة
جديدة، ويكون عدم ذكر ما يدّعي فيه التكرار إخلالًا، وذلكم مستحيل على
كتاب الله تعالى